فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}
استئناف ابتدائي لذكر حال من أحوال جميع المنافقين كما تقدم في قوله: {يحلفون بالله لكم} [التوبة: 62] وهو إظهارهم الإيمان بالمعجزات وإخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمغيبات.
وظاهر الكلام أنّ الحذر صادر منهم وهذا الظاهر ينافي كونهم لا يصدقون بأنّ نزول القرآن من الله وأنّ خبره صدق فلذلك تردّد المفسّرون في تأويل هذه الآية.
وأحسن ما قيل في ذلك قول أبي مسلم الأصفهاني هو حذر يظهره المنافقون على وجه الاستهزاء.
فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم بأنّه يظهر سرّهم الذي حذروا ظهوره.
وفي قوله: {استهزءوا} دلالة على ما ذكرناه، أي هم يظهرون ذلك يريدون به إيهام المسلمين بصدق إيمانهم وما هم إلاّ مستهزئون بالمسلمين فيما بينهم، وليس المراد بما في قلوبهم الكفر؛ لأنّهم لا يظهرون أنّ ذلك مفروض ففعل {يحذر} فأطلق على التظاهر بالحذر، أي مجاز مرسل بعلاقة الصورة، والقرينة قوله: {قل استهزءوا} إذ لا مناسبة بين الحذر الحقّ وبين الاستهزاء لولا ذلك، فإنّ المنافقين لمّا كانوا مبطنين الكفر لم يكن من شأنهم الحذر من نزول القرآن بكشف ما في ضمائرهم، لأنّهم لا يصدقون بذلك فتعيّن صرف فعل {يحذر} إلى معنى: يتظاهرون بالحذر وعلى هذا القول يكون إطلاق الفعل على التظاهر بمدلوله من غرائِب المجاز.
وتأوّل الزجاج الآية بأنّ {يحذر} خبر مستعمل في الأمر، أي ليحذر.
وعلى تأويله تكون جملة {قل استهزءوا} استئنافًا ابتدائيًا لا علاقة لها بجملة {يحذر المنافقون}.
ولهم وجوه أخرى في تفسير الآية بعيدة عن مهيعها، ذكرها الفخر.
وضميرًا {عليهم} و{تنبئهم} يجوز أن يعودا إلى المنافقين، وهو ظاهر تناسق الضمائر ومعادها.
وتكون (على) بمعنى لام التعليل أي تنزل لأجل أحوالهم كقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185].
وهو كثير في الكلام، وتكون تعدية {تنبئهم} إلى ضمير المنافقين: على نزع الخافض، أي تنبيء عنهم، أي تنبئ الرسول بما في قلوبهم.
ويجوز أن يكون تاء {تنبئهم} تاء الخطاب، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي: تنبئهم أنت بما في قلوبهم، فيكون جملة {تنبئهم بما في قلوبهم} في محلّ الصفة لـ {سورة} والرابط محذوف تقديره: تنبّئهم بها، وهذا وصف للسورة في نفس الأمر، لا في اعتقاد المنافقين، فموقع جملة {تنبئهم بما في قلوبهم} استطراد.
ويجوز أن يعود الضميراننِ للمسلمين، ولا يضرّ تخالف الضميرين مع ضمير {قلوبهم} الذي هو للمنافقين لا محالة، لأنّ المعنى يَرُدُّ كلّ ضمير إلى ما يليق بأن يعود إليه.
واختيرت صيغة المضارع في {يحذر} لما تشعر به من استحضار الحالة كقوله تعالى: {فتثير سحابًا} [الروم: 48] وقوله: {يجاد لنا في قوم لوط} [هود: 74].
والسورة: طائفة معيّنة من آيات القرآن ذات مبدأ ونهاية وقد تقدّم بيانها عند تفسير طالعة سورة فاتحة الكتاب.
والتنبئة الإخبار والإعلام مصدر نَبَّأ الخبر، وتقدّم في قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبإِ المرسلين} في سورة الأنعام (34).
والاستهزاء: تقدّم في قوله: {إنما نحن مستهزئون} في أول البقرة (14).
والإخراج: مستعمل في الإظهار مجازًا، والمعنى: أنّ الله مظهر ما في قلوبكم بإنزال السور: مثل سورةِ المنافقين، وهذه السورةِ سورةِ براءة، حتّى سميت الفاضحة لما فيها من تعداد أحوالهم بقوله تعالى: ومنهم، ومنهم، ومنهم. والعدول إلى التعبير بالموصول في قوله: {ما تحذرون} دون أن يقال: إنّ الله مخرج سورة تنبئكم بما في قلوبكم: لأنّ الأهمّ من تهديدهم هو إظهار سرائرهم لا إنزال السورة، فذكر الصلة واففٍ بالأمرين: إظهارِ سرائرهم، وكونه في سورة تنزِل، وهو أنكى لهم، ففيه إيجاز بديع كقوله تعالى في سورة كهيعص (80): {ونرثه ما يقول} بعد قوله: {وقال لأوتين مالا وولدًا} [مريم: 77] أي نرثه ماله وولده. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}
والحذر معناه الاستعداد لدفع خطر أو ضرر متوقع، وعلى سبيل المثال؛ يقال لمن يسافر في طريق محفوف بالأخطار: خذ حذرك وأنت تسير في هذا الطريق. وهنا قد يصحب المسافر معه رفيقًا، أو يأخذ معه سلاحًا يدافع به عن نفسه إن قابلته عصابة من قطاع الطرق. إذن: فالحذر هو الإعداد لدفع خطر أو ضرر متوقع.
ولكن إذا كانت السورة تتنزل من عند الله على رسوله فكيف يحذرون ويستعدون لنزول هذه السورة؟
نقول: إن هذا استهزاء بهم؛ لأنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ولأن آيات سابقة نزلت تفضح ما يخبئونه في نفوسهم. فهم دائمًا خائفون من أن تنزل آية جديدة تفضحهم أمام المسلمين.
الحق سبحانه وتعالى يريدهم أن يعرفوا أنه عليم بما في نفوسهم، ويخوفهم من أن تنزل آيات تكشفهم، فهم يخشون أن يخرج ما في بطونهم من كفر يخفونه، وهو غيب عن المؤمنين. والغيب- كما نعلم- محجوب بزمان ومكان، وغيب الزمان محجوب بالماضي أو بالمستقبل، فإن كان هناك حدث قد مضى ولم تشهده، فهو غيب عنك ما لم تعلمه من كتب التاريخ، وكذلك إن كان هناك حدث سوف يأتي في المستقبل، فهو لم يقع بعد، فهو إذن محجوب بالمستقبل، أما حجاب المكان فهو حجاب الحاضر، وعلى سبيل المثال: إن كنا الآن في القاهرة فنحن لا نعلم ما يحدث في الإسكندرية. والله سبحانه وتعالى هتك كل هذه الحجب في القرآن الكريم، فهتك الحق سبحانه حجاب الماضي في أمثلة كثيرة أخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل قوله سبحانه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44].
وأيضًا يقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45].
فكأن الحق سبحانه وتعالى قد كشف لرسوله من حجب الزمن الماضي، ما لم يكن يعلمه أحد، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
وكشف الله سبحانه وتعالى- أيضًا- لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حجاب الزمن المستقبل؛ فقال: {سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ...} [البقرة: 142].
وهؤلاء السفهاء سمعوا الآية قبل أن يتساءلوا عن تحويل القبلة، ورغم ذلك تساءلوا عن تحويل قبلة الصلاة. وأيضًا قالوا الحق من أمثلة كشف حجب المستقبل: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
وقد نزلت هذه الآية والمسلمون يلاقون عذابًا شديدًا من الكفار، حتى إن عمر بن الخطاب قال: أي جمع هذا؟
وعندما حدثت غزوة بدر قال عمر: صدقت ربي: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر}.
وكذلك كشف الحق سبحانه وتعالى حجاب المستقبل حين قال: {غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 2-5].
أي: أن الله تبارك وتعالى أعطى نتيجة المعركة بين الروم والفرس قبل أن تحدث بسنوات طويلة، وحدد الجانب المنتصر وهو الروم، وكذلك أنبأ سبحانه وتعالى رسوله بما يحدث في أعماق النفس. وما يدور في صدور الخلق، وساعة ما ينتهك حجاب النفس، كأنه يوضح لكل إنسان: إن سِرَّك الذاتي مفضوح عند الله، والمثال على هذا قول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ...} [المجادلة: 8].
هم قالوا في أنفسهم، ولو لم يقولوا لعارضوا ما أخبرهم به محمد صلى الله عليه وسلم عمَّا قالوه في أنفسهم وأعلنوا أنه كذب. ولكنهم لم يكذِّبوا رسول الله فيما أبلغ على ظنهم صدق رسول الله.
والمثال هو قول الحق هنا: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
وإن كان البعض منهم قد استهزأ قائلًا: لا داعي أن نتكلم حتى لا يُنزِل فينا قرآنًا، فالحق يُبلِّغ رسوله أن يرد عليهم: {قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
وما تحذرون منه أيها المنافقون سيكشفه الله لرسوله وللمؤمنين. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}
أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم} قال: يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا هذا.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المثيرة، أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وأبو الشيخ عن المسيب بن رافع رضي الله عنه قال: ما عمل رجل من حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، ولا عمل رجل من سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك كلام الله تعالى: {إن الله مخرج ما تحذرون}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}
قوله تعالى: {أَن تُنَزَّلَ}: مفعولٌ به ناصبُه يحذر، فإن {يَحْذَر} متعدٍّ بنفسِه لقوله تعالى: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 30] لولا أنه متعدٍّ في الأصل لواحدٍ لَما اكتسب التضعيف مفعولًا ثانيًا، ويدلُّ عليه أيضًا ما أنشده سيبويه:
حَذِرٌ أُمورًا لا تَضيرُ وآمِنٌ ** ما ليسَ مُنْجيَه من الأَقْدارِ

وفي البيت كلامٌ، قيل: إنه مصنوع، وهو فاسد أتقنت حكايته في شرح التسهيل وقال المبرد: إنَّ حَذِر لا يتعدى قال: لأنه من هَيْئات النفسِ كفَزِع، وهذا غير لازم فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍ كخاف وخشِي فإنَّ {تُنَزَّل} عند المبرد على إسقاط الخافض أي: مِنْ أَنْ تُنَزَّل. وقوله: {تُنَبِّئهم} في موضع الرفع صفةً لـ {سورة}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}
ظَنُّوا أَنَّ الحقَّ سبحانه لا يفضحهم، فَدَلَّسُوا عليكم، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم، فأرخى الله سبحانه عنانَ إمهالهم، ثم هتك الستر عن نفاقهم؛ فَفَضَحَهم عند أهل التحقيق، فتقنعوا بِخِمار الخجل، وكشف لأهل التحقيق مكامنَ الاعتبار. ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار! {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]. اهـ.